هكذا علمونا .... فلسطين داري
بقلم عمر عياصرة
مرارة أيار، تتكرر في كل لحظات العمر، فضياع فلسطين واستلابها من قبل عصابات الحقد والكراهية، ليس عنواناً سهلاً يمكن المرور عليه بشيء من
التباكي والشموع، بل هو مصاب عظيم، ومؤشر تابع لمعاني الهوان والاستكانة والتبعية والضعف وغياب الشعوب.
وما أكد هذه المرارة ورسخها، وجعلها مرضا عضالا، أن فريقا من الأمة، يملك النفوذ والسلطة، يريد أن يفرض على ثقافة الأمة تعريفات ومفاهيم جديدة
ومشوشة لمعاني كبيرة، كفلسطين وتاريخها وماهيتها وحقوق أبنائها، فجاءت التسوية المشؤومة، لتحدث انقلابا سريعا ومفاجئا لما تعرفه الأمة، ذلك دون
مشورتها والأخذ برأيها، هنا تاهت بوصلة المرارة بين جرح النكبة من ناحية واستسلام ذوي القربى بغير داع أو حافز يجنونه من ناحية أخرى.
الجيل الذي أنتمي له، دخل المدرسة مع نهاية السبعينات، حينها تربينا في كل لحظة، وعند كل صباح ومساء، على حب فلسطين، وعلمتنا الأسرة العربية
القروية أن حب فلسطين قدر وإيمان، عشنا تلك الأيام على توافق شبه تام مع أجهزة الدولة الأيدلوجية، الممثلة بالإعلام والتربية، حيث إن جميع قنوات
وأدوات المجتمع، دولة ومواطنين، مارسوا سلوكا تعبويا تجاه قضية فلسطين وتحريرها من الغاصب المحتل.
علمتنا تلك الأجهزة أن فلسطين هي ذلك الجزء التاريخي الممتد من البحر إلى النهر، وكانت المفاهيم موحدة، وسرنا والدولة سويا نحو القول بأن الصهاينة
أعداء مغتصبون، وأنهم حالة طارئة مؤقتة، سرقوا القدس والخليل ونابلس، كما سرقوا اللد وعكا وحيفا، تشكل وعينا المفاهيمي بإرادة الأجهزة المؤدلجة في
الدولة، من إعلام ومناهج كانت ذات سطوة في صناعة الاتجاهات، مما يجعلنا نحمَل مسؤولية أي تغير في مفردات هذا الوعي إلى إرادات مشبوهة تسير بنا نحو تحديات وانقسامات خطيرة قادمة.
الترانيم الوطنية الأصيلة، لا يمكن نسيانها بسهولة، لأنها تسكن العقل والقلب والوجدان، ويصبح لها في الخاطر منزلة ورعشة اعتزاز، وهذا ما حصل مع
جيلي التعب، حيث تتلمذنا في ريعان العمر على الأدب الوطني، الذي يحوي المفاهيم ويرسم الحدود، وكانت أنشودة فلسطين داري، واحدة من أرقى الأدوات
المستخدمة في بناء وعينا الوطني تجاه فلسطين وما جرى لها من أحداث، رددناها في كل مناسبة، وتابعناها على صفحات كتبنا المدرسية، فمارسنا معها
التوحد، لم نخف من مفرداتها لأنها جزء من مناهجنا، وبنينا عليها رغبات المستقبل وتطلعاته في التحرير والخلاص من عصابات الغدر والسرقة، مدركين أن
الأجهزة التي عبأتنا، ستحمينا لأن لها اليد الطولى في ذلك، ولم يأت على خاطرنا، أن ما تحويه هذه الترانيم يوما، ستعرضنا للمسألة أو سنختلف عليها فيما بيننا.
فجأة ودون مشورة لنا، ربما بحكم غياب الحرية والديمقراطية، تغيرت المفاهيم والمصطلحات، وبتنا نسمع تعريفات جديدة مختلفة عن كل مفهوم عايشناه في
السابق، فلسطين لم تعد فلسطين التي عرفناها، وأصاب هذا العارض كل المفاهيم، وأصابت الميوعة والسيولة الثوابت كما المتغيرات، كل ذلك دون سند
واقعي سياسي متزن، يمكن أن يبرر ذلك التحول الذي حرق المراحل بصورة لازلنا نعاين انقساماتها ونتائجها المعقدة.
الغريب في المسألة، أن الأجهزة التربوية والإعلامية، التي عبأتنا وقامت بصياغة وعينا نحو المسألة الفلسطينية، هي ذات الأجهزة التي أطلقت مرتكزات ذلك
الوعي الآخر المضاد والمختلف بل المتناقض مع الوعي السابق، حتى أن تلك الأجهزة لم تسعفنا بمرحلة انتقالية تنقذ بها ماء وجهها، ربما ما جرى أصابنا
بالصدمة المؤقتة، لكننا بعد القراءة الحصيفة للتاريخ المعاصر أدركنا أن المبادئ قد تستخدم يوماً لمآرب لا أخلاقية عند البعض القليل.
في ذكرى النكبة، نشتاق لذلك الوعي وتلك التعبئة، التي كانت تجعل القرية محضناً لوجستياً لمعركة التحرير، وكانت تؤكد على أن المخيم حالة طارئة مؤقتة،
يبني ذاته وأدواته تجاه ثقافة العودة والتحرير والنصر، وما نراه اليوم مؤسفٌ للغاية، حيث التعبئة ومصطلحاتها أصبحت حالة مهترئة، وفي أحسن حالتها
أصبحت كلاماً للمزايدة والاستهلاك، يتم تداوله على مستويات عدة تتصارع على موارد مادية لا علاقة لها بالمشروع الأكبر، والمتمثل بتحرير فلسطين وإزالة
آثار النكبة.
من الصعب علينا نحن الذين تربينا على (فلسطين داري) أن ننحاز لغير معسكر رفض التسوية، بل ونصر على اعتبار الاتفاقات الموقعة مع الصهاينة، لا
علاقة لها مع المصالح الحيوية لأوطاننا، وهذا الموقف ليس بسبب الخطأ الذي ارتكبته الأجهزة التربوية والإعلامية عندما عبأتنا وشكلت وعينا في حينها، بل
بسبب موضوعية الموقف، حيث إن تلك الأجهزة، كانت في تلك الأيام أكثر استقلالا وانسجاما مع مصالح الأمة، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، كما أن تجربتنا
في التسوية مقارنة مع تلك المرحلة التعبوية، تشهد فارقا في منسوب العزة والكرامة، يميل إلى مصلحة مرحلة التعبئة والوقوف على الحقوق.
ساعات الهوان لن تدوم، وهذه ليست مجرد أمنية طوباوية، بل قانون إنساني حضاري وتاريخي، من هنا لن نساوم على وعينا الذي اكتسبناه في لحظات، كنا
فيها أقل عبودية من مرحلة انهيارات التسوية التي نعيشها اليوم، في ذكرى النكبة نرفع قبعاتنا لذلك الوعي الذي علمنا حقوقنا، ونعده أن لا نغادر ذلك المربع الحصين.